على صعيد آخر، نلاحظ أن أحد الحيوانات وهو العنكبوت يصرف تصرفا عجيبا عندما يبني بيته الذي قال فيه سبحانه وتعالى" وإن أوهون البيوت لبيت العنكبوت". إن هذا العنكبوت الصغير يبدأ بتثبيت الخيوط العرضية والأفقية لتكون الدعامات الأساسية لشبكته ثم يتحول للخيوط المركزية في عملية حلزونية بادئا بالمركز و منطلقا نحو الخارج في دوران مستمر بالاتجاه المعاكس لعقارب الساعة إلى أن ينتهي من بناء بيته.
السهم يعبر عن اتجاه دوران العنكبوت وهي تنسج بيتها
أما إذا غيرنا المنظار وفكرنا بمقاييس مجهرية وركزنا اهتمامنا على ما يجري في أصغر حجم يعرف إلى حد الآن وهي الذرة سوف نلاحظ ما يلي :
إن الكثير منا يعلم أن كل ما يوجد في الكون يتكون من أحجام متناهية الصغر تسمى الذرة. ولكي تكون لدينا فكرة مبسطة عن حجمها يمكن القول بأن رأس إبرة، على سبيل المثال، يحتوي على ستين مليار ذرة. وتتكون كل ذرة لوحدها من جزيئات أصغر منها وهي البروتونات والنيترونات التي تشكل النواة من جهة والإلكترونات من جهة أخرى. ولقد أثبت الفيزيائيون أن البروتونات محملة بشحنة كهربائية موجبة والإلكترونات محملة بشحنة كهربائية سالبة أما النيترونات فلا شحنة لها.
إن كافة هذه الأجزاء في حركة دائمة حيث لو نظرنا إلى هذه الذرة عبر المجهر لرأينا أن الإلكترونات تدور دون توقف حول النواة على عكس اتجاه عقارب الساعة.
الذرة ودوران الإلكترونات حول النواة
إن هذا الدوران ليس غريبا عن الإنسان المسلم الذي يعلم أنه لا يكتمل له دينه الذي ارتضاه الله له إلا بأدائه هذا الدوران ذاته وبنفس الطريقة متمثلا في الطواف بالكعبة الشريفة. وكلنا نعلم أن الطواف هو الدوران حول الكعبة المكرمة بحيث يكون البيت العتيق إلى يسار المتطوف وعلى عكس اتجاه عقارب الساعة أو بالأحرى كما تدور المجرة حول نفسها وكذلك المجموعة الشمسية، والكواكب كلها، والأقمار التابعة لبعضها، والصواعق وسيقان الكرم والذرة , بل أضف إلى ذلك اتجاه سعي الحجاج بين الصفا والمروة. حيث نراهم يدورون في نهاية المسار إلى اليسار وكأنهم يدورون في حلقة تم تمديدها.
هنا نقف وقفة تأمل واستفهام عن سر هذا الدوران الموحد في اتجاهه و المتجانس في شكله ونتساءل، هل هو مجرد صدفة أم له مدلول روحي أبعد وأعمق مما يبديه مظهره الخارجي؟ وكيف؟ و لماذا سن هذا القانون ومن سنه ليكون كذلك؟ تلكم هي الأسئلة التي نحاول الإجابة عليها بإذن الله.
إذا جعلنا من الآية 191 من سورة آل عمران التي قال الله فيها ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السمـوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحــنك فقنا عذاب النار) أساسا لتفكيرنا وانطلقنا في بحثنا لعلمنا علم اليقين بأنه ليس للصدفة محل من الإعراب في خلق الله سبحانه وتعالى.
إذا كانت العبادات كما قررها نبي الرحمة في الأركان الخمسة مقصورة على الإنسان والجن, بدليل الآية ( وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون), فإن التسبيح بحمد الله جاء بصفة التعميم ليشمل كافة المخلوقات سواء كانت لها روح أم لم تكن وذلك بدليل الآية ( سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) التي وردت في القرآن الكريم ثلاث مرات على هذه الصيغة في كل من سور الحديد والحشر والصف. كما وردت في صيغة المضارع مرتين < يسبح لله ما في السمـو ت وما في الأرض> في افتتاحية سورتي التغابن والجمعة.
إن العارفين بقواعد اللغة العربية يعلمون أن حرف ما يستعمل لغير العاقل كقوله تعالى ( ما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي.....) وذلك خلافا لحرف من (بفتح الميم) الذي يستعمل للعاقل دون غيره كقوله تعالى( قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم).
أما الآية الرابعة والأربعون من سورة الإسراء فتغنينا عن الخوض في قواعد اللغة لكونها تعمم التسبيح على كل عاقل وغير العاقل كالإنسان والحيوان والجماد إذ يقول عز وجل: (تسبح له السمـو ت والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا).
إن عبارة "ومن فيهن" وجهت للعاقل فقط و المقصود بها هنا الإنس والجن والملائكة أما عبارة < وإن من شيء > فهي تعني كل ما دون ذلك بغير استثناء ومهما كانت طبيعته أو حجمه كالكواكب والنجوم والشجر والحيوانات أو ما هو أصغر كالذرة التي يبلغ طولها خمسة أو ستة أجزاء من المليون من الميليمتر.
إن الأدلة القرآنية السابقة الذكر تبين لنا بكل وضوح أن الحيوان والجماد يسبحون بحمد الله، أما الأدلة من السنة فهي كالآتي.
يقول ابن كثير في تفسيره بخصوص " تسبح له " بمعنى تقدسه السماوات السبع ومن فيهن أي من المخلقات و تعظمه وتبجله وتكبره وتنزهه عما يقول المشركون وتشهد له بربوبيته وألوهيته.
أما عبارة ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) فليس المراد بها لا تعرفون تسبيحهم بل لا تفهمون تسبيحهم لاختلاف لغاتهم عن لغاتكم أيها البشر. ومن ثم فإن عدم فقه الشيء لا يعني بالضرورة عدم معرفته أو جهل وجوده و مثال ذلك كون شخص يتكلم بالانجليزية أمام شخص آخر لا يفهم هذه اللغة فيقول هذا الأخير :أنا لا أفقه هذه اللغة ولكني أعرف أنها الانجليزية.
وجاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: ( كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
وفي حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيحا كحنين النحل وكذا في يد أبي كر و عمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين وهو حديث مشهور في المساني.
وجاء في سنن النسائي عن عبد الله ابن عمرو قال نهى رسول الله عن قتل الضفادع وقال: ( نقيقها تسبيح). وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن هليعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم فقال لهم: ( اركبوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا منه).
بعد أن بينا من السنة أن الحيوان يسبح بحمد الله, سوف نحاول أن نبين أن هذا الدوران تسبيح أيضا.
جاء في صحيح مسلم، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام، في الحديث رقم19 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني حدثنا أبو خالد يعني سليمان بن حيان الأحمر عن أبي مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( بني الإسلام على خمسة على أن يوحد الله(1) وإيقام الصلاة(2) وإيتاء الزكاة(3) وصيام رمضان(4) والحج(5)) فقال رجل الحج و صيام رمضان قال لا صيام رمضان والحج ؛ هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نلاحظ في هذا الحديث إلحاح الراوي على الترتيب الصحيح والواجب الأخذ به رغم وجود روايات أخرى حول وضعيتي ركني الصوم والحج ومن يسبق الآخر إلا أني أرجح الترتيب السابق الذكر لأسباب كثيرة ليست موضوع البحث.
إن هذا الترتيب يدل على أنه لايجوز للمسلم أن يقوم بأداء الصلاة دون أن يدلي مسبقا بالشهادتين، كما أنه لا يجوز له أن يؤتي الزكاة دون أن يقيم الصلاة أو الحج قبل الصيام.و دون الخوض في مسائل فقهية لسنا مؤهلين لها كما أننا لسنا بصدد دراستها، نستنتج أن وضعية الركن في الترتيب تدل على درجة أهميته التعبدية وقوة وجوب أدائه. وبذلك يكون ركن الشهادة الذي رتب في المقام الأول أكبر الأركان وأهمها بل لا تقوم للأركان الأخرى قائمة بدونه كما أنه أكبرها وجوبا بحيث لا يقبل فيه أي نقصان أو تنازل كما لم يمنح الله فيه أي ترخيص وذلك ما بينته الآية 48 من سورة النساء( إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقدا فترى إثما عظيما).
أما الركن الثاني وهو ركن الصلاة، رغم كونها عماد الدين، إلا أنه يتمتع من التراخيص ما يجعله أقل منزلة من سابقه، كالتيمم عند غياب الماء، والتقصير عند السفر والترخيص للمرأة الحائض حتى تطهر دون القضاء وكذلك في حالة النفاس. كما يجوز أداء الصلاة في حالة جلوس. أما الركن الثالث وهي الزكاة فهو يتمتع بترخيصات وشروط تيسيرية كإتمام الحول وبلوغ النصاب الشرعية و تحفيزية كتزكية المال وتطهيره. ويليه ركن الصيام وترخيصاته الأخرى كإفطار الصائم أثناء السفر أو المرض أو الحيض والنفاس عند المرأة بل أكثر من ذلك حيث يرخص الله لمن لا يستطيع الصيام أن لا يؤديه البتة بشرط التعويض عن ذلك بإطعام مسكين عن كل يوم أفطر فيه.
أما الحج فهو آخر الأركان في الترتيب ومعنى ذلك أنه أدناها وجوبا رغم ما فيه من مزايا وثواب كما أنه يتمتع بدوره بكثير من التراخيص ولعل أهمها أنه كلما ورد ذكر الحج إلا و أتبعته عبارة ( من استطاع إليه سبيلا )، ومفاد ذلك أن أداءه مقترن بتوفر الاستطاعة الجسدية(الصحية) و المالية ويمكن أن نزيده، نظرا لحال الأمة اليوم، شرط الحالة الأمنية. ولقد أصدر علمائنا الميامين فتوى جواز حج شخص لحساب آخر حتى ولو كان ميتا.
البيت العتيق وطواف الحجاج حول الكعبة الشريفة
السهم يعبر عن اتجاه الطواف
ومن ثم يفترض في المسلم الذي قام بأداء فريضة الحج أنه قد أدى كافة الأركان الأخرى، لذا يعتبر الحج تتويجا للفروض الأخرى. إذا سألنا أي شخص عن أسمى وأصدق صورة ترمز للحج لكان الجواب بكل بداهة وارتجال:
الطواف بالكعبة الشريفة.
إننا نعلم بأن الطواف من أهم المناسك وهو في حد ذاته صلاة كما ورد في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الحج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب الكلام في الطواف. قال حدثنا قتيبة قال حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الطواف حول الكعبة مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير).
اعتمادا على المقاييس العقلية وارتكازا على الأسس الإيمانية نستنتج أن هذا الدوران المتجانس لكل هذه المخلوقات بدءا بأكبرها في علمنا وهي المجرة وانتهاءها إلى أصغرها وهي الذرة ومرورا بالمجموعة الشمسية والكواكب والأقمار والأعاصير وسيقان الكرم وكلها تدور بنفس طريقة الحاج وهو يطوف بالكعبة الشريفة فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون نتيجة الصدفة لأن الذي قال في الآية 59 من سورة الأنعام (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) لا يسمح بأن تتدخل الصدف في تسيير الكون كما أن عظمة و مغزى هذا الدوران أجل وأقدس من أن تخضع للصدف، بل نجزم بأنه لو كان كذلك لدارت الأرض يسارا والمريخ يمينا والشمس شمالا والقمر جنوبا كل حسب هوى صدفته ولو كان كذلك لفسدت السماوات والأرض وكل ما زحف أو طار أو دب فيهن. كما نؤمن كل الإيمان بأن مصدر الأمر واحد لا ثاني له و هو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء له الأمر كله. كما نعتقد أن الله تبارك وتعالى عندما فرض التسبيح على كافة المخلقات إنما اختار للجماد صورة أسمى و أنبل وأقدس حركة تعبدية يقوم بها الإنسان باعتباره خليفة الله في الأرض لما في هذه الحركة من تتويج لأداء الفرائض الواجبة على المسلم. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.
فسبحان القائل في سورة فصلت الآية53 :
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق صدق الله العظيم.
سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم تقبل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم واجعله لبنة في بناء الصرح الفكري والحضاري للأمة الإسلامية وثبته في ميزان حسناتي القليلات.
وألتمس من القارئ أن يتكرم علي بصالح الدعاء.
والحمد لله رب العلمين.